بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا و نبينا محمد و أما بعد:
موقف الفلسفة الاسلامية من ضاهرة الوحي:
-لم ينكر الفلاسفة المسلمون النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة. بل أثبتوهما، وجعلوا النبوة ضرورة عقلية وواجبة لأن فيها صلاح حال الناس ويقتضيها العدل الرباني ولكن منهج فلاسفة المسلمين منهج توفيقي بين الدين والفلسفة. فقد شرحوا مباحث الوجود شرحاً جمعوا فيه بين نظرية الوجود في فلسفة الإغريق وبين مفهوم الوجود في الإسلام وكان شرحهم ذا نزعة عقلية توفيقية وهم وعلى الأخص ابن سينا والفارابي، ومن تبعهما من الفلاسفة الإشراقيين، كالسهروردي، يؤمنون بالفيضية في الوجود، والإشراقية في المعرفة. وبناء على ذلك فالنبوة طريق للمعرفة لا تخرج في شرحها وكيفيات الوحي عن مذهبهم الإشراقي في المعرفة. ويردون النبوة إلى صلة النبي بالعقل الفعال الذي هو واهب الوجود وواهب الصور ويتم ذلك عن طريقين هما:
1_ طريق العقل الإنساني في أعلى مراتبه بعد أن يصبح عقلاً بالفعل مستفاداً، وهذا العقل يرتقى عند بعض الناس إلى أن يتقبل الأنوار الإلهية بغير معلم وبغير تعلم ولا حس ولا فكر، فيسمى العقل القدسي أو الروح القدسية. وعقول الأفلاك عندهم ملائكة ومن ثم يتصل العقل الإنساني في أعلى درجاته بالعقل الفعال عقل فلك القمر وطبيعتها عقلية. وهذا الإشراق بلا تعليم من العقل الفعال في العقل القدسي، هو كيفية من كيفيات الوحي بأن يسمع صوته ويراه والملاك مطلع على الغيب إذ هو مطلع على اللوح. ولا وسائط في إطلاعه على اللوح ولا في إطلاع العقل القدسي عقل النبي على ما يهبه العقل الفعال له من معارف. ويقيم ابن سينا النبوة على أساس عقلي ويرد كيفيتها في العقل الإنساني إلى تدرج وترق إلى أن يصبح العقل الإنساني في درجة ليس بحاجة إلى فكر ونظر، وإنما يقبس معارفه من العقل الفعال ويشعر بذلك في داخله بما لا يحتاج إلى تفكير، وهو المسمى عنده حدساً. والحدس عنده ليس خاصاً بواحد دون آخر ولكنه متفاوت فهو أعلى ما يكون وأكثر ما يتحقق في النبي، ولكنه قد يقل عند غيره حتى يصل إلى أناس لا حدس عندهم.
2_ الطريق الثاني: يكون بفيض العقل الفعال على القوة المتخيلة. وللمتخيلة عند فلاسفة المسلمين شأن كبير إذ هي أساس تفسير الرؤيا الصادقة والأحلام عموماً. وقد عقد الفارابي فصلاً في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" في سبب المنامات، وقد رد ما يراه النائم في نومه إلى هذه القوة المتخيلة المتوسطة بين القوة الحاسة وبين القوة الناطقة أي بين الحس والعقل. إذ إن لها صلة بالخصائص النفسية للإنسان من ميول وعواطف وحركات وإدارية ونزعات وهي تحتفظ بالآثار الحسية القادمة من العالم الخارجي عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة. ولها قدرة على التأليف والاختراع والإبداع بما فيها من قدرة على التركيب والفصل وتكوين صور جديدة قائمة في الوهم، وهي تحاكي القوى النفسية لدى الإنسان ويعقد فصلاً آخر على القول في الوحي ورؤية الملك يردهما فيه إلى القوة المتخيلة القوية عند الأنبياء التي تقبل من العقل الفعال فيكون لها نبوة بالأشياء الإلهية.
(ج) نقد وتقييم
بعد أن عرضنا التصور الإسلامي لكيفية الوحي عند فلاسفة المسلمين نجد أن هؤلاء الفلاسفة وإن سلموا بالنبوة طريقاً للمعرفة إلا أنهم أصروا على تفسيرها تفسيراً نفسياً وعقلياً بحسب مذهبهم في المعرفة عموماً، وهو المذهب العقلي الإشراقي الذي يوفق بين الدين والفلسفة. وقد وقف علماء أهل السنة موقف الاستنكار لهذا الاتجاه الذي خلط الدين بالفلسفة، واعتدى على أهم ما يميز الإسلام عن غيره من الفلسفات وهو طريق الوحي والنبوة، التي هي اصطفاء واختيار من الله سبحانه لعبد من عباده نبياً رسولاً. وهي موهبة ومنحة وليست كسباً قائماً على التدرج في الرياضة الفكرية أو الروحية. ونكتفي بأن نسجل المآخذ التالية على نظرية النبوة عند فلاسفة المسلمين فنقول:
1_ إن في هذا التفسير للنبوة خروجاً عن منهج القرآن الكريم وتصوره، كما أن فيه معارضة واضحة لنصوصه الصريحة القاطعة في الشرح والتفسير فكيفيات الوحي لا نستطيع أن نعرف شيئاً منها إلا من الشرع. وهذا المأخذ إنما يتوجه أصلاً إلى قضية آمن بها هؤلاء الفلاسفة، وخدعوا بها أنفسهم والمعجبين بهم تلك هي محاولتهم الجمع بين الدين والفلسفة بالتوفيق بينهما في شتى المجالات ونحن نرى أنه لا صح المقارنة ولا الجمع ولا يسوى بين منهج رب العالمين ومنهج البشر المخلوقين.
2_ إن النبوة في التصور القرآني فضل من الله سبحانه بمحض اختياره عز وجل وإرادته المطلقة المختارة يتفضل بها على عبد من عباده كي يبلغ الناس مُراده. ولكنها عند الفلاسفة أمر ضروري واجب يقتضيه التحسين والتقبيح العقليين، أو ليس ذلك غريباً على تصورهم لأنهم أساءوا قبل ذلك في فهم علاقة المخلوق بالخالق، إذ جعلوها ضرورية ضرورة وجود المعلول بوجود العلة، كما جعلوها ضرورية من قبل النبي نفسه الذي يتدرج بعقله الذي يصل إلى درجة المستفاد، ثم لابد له أن يتصل بالعقل الفعال، وكل ما هنالك أن مخيلة النبي أقوى من سائر مخيلات الناس، وهذا ما يتميز به النبي عندهم.
3_ النبوة في نظر القرآن والسنة ليست مكتسبة بتدرج ولا برياضة. ومن ثم فهي خاصة فيمن اصطفاه الله لها. بينما هي عند الفلاسفة مكتسبة. وإذا كانت تخضع للتدرج في الرياضة فهي عامة وليست منتهية أو مختتمة. وهذا خلاف للتصور الإسلامي الذي جعلها خاصة لا يدري بها النبي قبل نبوته كما قال تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) ومختتمة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) والكمال في الصفات الفطرية الإنسانية لا يكون باستعداده وإنما الله سبحانه يحفظ له هذا الصفاء، ولا يجعله يتلوث في الجاهلية أو أوحالها فهو إذن يعد على عين الله تعالى وكما قال سبحانه (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) وقال عز وجل (الله أعلم حيث يجعل رسالته). وقد عبر أهل السنة عن معنى الاصطفاء هذا فقال الشهرستاني قال أهل الحق: النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبي ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالاً بالروحانيات بل رحمة من الله تعالى ونعمة يمن بها على من يشاء من عباده. وإذا كانت النبوة كما يرى الفلاسفة ليست إلا ثمرة التدرج في الرياضة الفكرية والإشراق العقل الفعال عل القوة المتخيلة، فإن هذه النبوة تصبح "ضرباً من المعرفة يصل إليها الناس على السواء". وهذا ما لا يقره الإسلام.
4_ قيمة النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة وإن كان الفلاسفة يعترفون بها، إلا أنه بناء على مذهبهم العقلي والإشراقي في المعرفة يلزمهم أن تكون المعرفة النبوية أقل في قيمتها كطريق للمعرفة من المعرفة العقلية أو الفلسفية ومن ثم فإن منزلة النبي على مذهبهم أقل من منزلة الفيلسوف أو أقل ما فيها أنها مساوية. وهذا الرأي في تقييم المعرفة النبوية ومنزلتها، مجال خلاف بين مؤرخي الفلسفة. فيوافق عليه دى بور ويخالفه في هذا الرأي هنرى كوريان، ويدفع د. محمد يوسف موسى ود. مدكور هذا الاتهام عن الفارابي ويذهبون إلى العكس من ذلك فإن المعرفة النبوية عند الفارابي أعلى درجة من المعرفة العقلية، مستندين إلى أن الفارابي اشترط كمال القوة المتخيلة والناطقة للنبي. كما أن تقييمهم لها كان على أساس مختلف يقول د. مدكور: "غير أنه قد يعترض عليه بأن يضع النبي دون منزلة الفيلسوف فإن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل. وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة. ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية. وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أو بواسطة المخيلة وما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً. فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع".
وحقيقة الأمر أننا هنا نتهم الفارابي والمذهب الإشراقي ونلزمه بناء على مذهبه لا بناء على كلمة يقولها في محاولة الدفاع عن نفسه في وجه من يتهمه. إن الذي يريد الحق يتراجع عن مذهبه الخاطئ الذي أثمر ما نلزمه إياه ولا ينافق المسلمين في التصريح بقوة المتخيلة والقوة الناطقة. ثم إن التبرير الذي قيل بشأن أساس التقييم وهو أن مصدر المعرفة هو المهم في هذا وليس طريقها. لا نوافق عليه والتهمة قائمة. ذلك لأن الأفضلية هنا ملزمةِ للفلاسفة من وجهين:
الوجه الأول: من حيث وسيلة الاتصال فالفيلسوف يتصل بوسيلة العقل والنبي على رأيهم يتصل بوسيلة المخيلة التي تتبع الحواس الباطنة. والعقل أفضل من الحس كوسيلة.
الوجه الثاني: من حيث نوع المعرفة فإن الفيلسوف يقيس بعقله فيض العقل الفعال فتكون معرفته عقلية ثابتة بينما النبي على رأيهم يتصل على طريق المخيلة، فتكون معرفته حسية وخيالية ومخترعة وفائضة عن العقل الفعال. وبهذا فلم تعد النبوة في هذا الفهم الفلسفي ذات شأن كبير فضلاً عن أنها لم تعد أعلى طريق المعرفة وأقيم وسيلة من وسائلها وأقل ما ذهب إليه الفلاسفة أنهم جعلوا منزلة الفيلسوف مساوية لمنزلة النبي في المعرفة مع اعترافهم باختلاف بين تلقيهما للمعرفة فالفيلسوف يتلقاها بإشراق العقل الفعال على العقل الإنساني بينما النبي يتلقاها بما يفيضه هذا العقل الفعال الذي هو جبريل في نظرهم على مخيلته.
5_ إن هذا التفسير لكيفية النبوة والوحي فيه اعتداء على نصوص القرآن والسنة الصحيحة، ولا يخدم تأويل النبوة هذا التأويل العقلي الإسلام أبداً. ولا ينفع الدفاع عن قضايا العقيدة بمنطق الخصم لأن لكل دين أو فلسفة مناهج بحثه الخاص، ووسائل الدفاع الخاصة، فالقرآن والسنة يدافعان عن عقيدة النبوة دفاعاً ملزماً للعقل البشري السليم، ولا يجعلان من هذا العقل إلها مقدساً يحكمان إليه، كما فعل فلاسفة المسلمين، ومن ثم فإننا لا نرى وجهاً لهذا التأويل العقلي والتشريح الكيفي، لقضية قال صاحبها فيها قوله، وألا يكون ذلك افتئاتاً عليه كما قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون). وحقيقة الأمر أن الدوافع الفلسفية تخرج الإنسان أحياناً عن جادة الصواب لأنها تضطره للدفاع عن القضايا وتبريرها تبريراً يزيد من تعقيد المسألة.
ولنا على ذلك بعض الملاحظات:
أ إن قضية التوفيق في حد ذاتها قضية لا يحتملها الدين وليست من منهجه لأنه جاء ومهمته الأساسية تغيير كل التصورات والعقائد البشرية التي شكلها الناس بمنهج العقل والتقليد والهوى بعيداً عن دائرة الدين. فلا يمكن أن يجعل الدين الحق في خليط من عقائده الربانية والفلسفة البشرية، لأن حقائق الدين هي الحقائق البديلة فهي الحق وغيرها الباطل والحق أحق أن يتبع. ولا يفهم من هذا أن حقائق الدين تتعارض معها العقول ولكن العقل السليم إنما هو مخلوق لله، وقد جعل الله في منهجه ما يستطيع هذا العقل أن يفهمه ويتجاوب معه ويسلم بوجوده من خلال قوانين العقل في عالم الشهادة. وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وإذا كان الإسلام ناسخاً للديانات السابقة وهي في أصلها من عند الله أفلا ينسخ الفلسفات البشرية التي شكلتها مدارس بعيدة عن هدى الله ومنهجه.
إن ثبوت النص في القضية التي هي قيد البحث ثبوتاً يقينياً هو سلاح رئيسي في الدفاع عن القضية. وبعد ذلك نرى هل شرح النص نفسه هذه القضية وفسرها؟ أم أنه ترك شرحها وتفصيلها للعقول وأية عقول؟ فإذا كانت القضية إحدى أركان الإيمان وهي الإيمان بالرسل والشهادة بأن محمداً رسول الله فهل يترك النص تفسير كيفية هذه القضية على أهميتها وأهمية توحيد التصور والفهم لها للعقول؟ والعقول مع التسليم بقدرتها على الفهم تتخالف فيما بينها فكيف إذا كانت القضية في شرحها وكيفياتها لا تدخل في نطاق قوانين العقل أصلاً وإذا تقدمت العقول لتلك المهمة فإنها في الحقيقة تستبعد النصوص وتحل محلها خرافات وتأويلات، لا سند لها من دين أو عقل سليم. لأن العقل السليم يؤمن بأن تفسير هذه القضية لا يدخل في مجال عالم الشهادة، بل هو من قبيل عالم الغيب. الذي لابد أن نعتمد فيه على النص كيفية وشرحاً وتفسيراً والنص نفسه قد أعطى لنا شرحاً وتفسيراً كافياً.
(ب) أنه ليس في قضايا الدين والاعتقاد أمر وسط، وهل يكون الأمر الوسط بتغيير ما أنزل الله وهو أعلم بخلقه وطبيعتهم وبين ما هو بشرى؟ إن الوسطية كمفهوم سليم بعيد عن الإفراط والتفريط، إنما هي في ذات الحقائق الربانية التي أنزلها على النبي وليست جمعاً بين ما جاء به النص وخيالات وترهات الفلاسفة، فإن حقائق الدين ربانية المصدر والشرح والتفسير. والفلسفة اليونانية أصلاً وعلى الأقل شرحاً وتفسيراً وتحليلاً وثنية حتى وإن كان العقل هو الذي يتبنى هذه الوثنية ليعطيها معقولية ما.
(ج) ثم أي جلاء لقضية النبوة ظهر في ما فعله الفارابي وسائر فلاسفة المسلمين؟ إنهم عقدوا القضية بعد أن كانت بسيطة. والمسلم لا ينشغل بتشريح الكيفية وإنما تكفيه المعلومات عنها والتي هي بقدر ما تطيقه فطرته. ولا أحد أعلم بما تطيقه هذه الفطرة من خالقها سبحانه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وأي أثر للنبي زاده شرح فلاسفة المسلمين للنبوة سواء في مجال السياسة والاجتماع أو غيرهما حتى يبرر لهم تأويلهم بالقول "فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي في السياسة والاجتماع لكفى". وهل غابت هذه المهمة في تفسير القرآن والسنة النبوية للنبوة وأثرها في هذه الجوانب أم أن المقصود هو أن الفلاسفة جعلوا مهمة النبوة إنسانية من منطلق إنساني وبتفسير إنساني، وهو خروج عن مفهوم النبوة وعدم التسليم بالمفهوم الرباني للنبوة، القائم على أنها ليست إنسانية لا في المنطلق والمصدر ولا في الشرح الكيفية.
موقف الفلسفة الاسلامية من ضاهرة الوحي:
-لم ينكر الفلاسفة المسلمون النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة. بل أثبتوهما، وجعلوا النبوة ضرورة عقلية وواجبة لأن فيها صلاح حال الناس ويقتضيها العدل الرباني ولكن منهج فلاسفة المسلمين منهج توفيقي بين الدين والفلسفة. فقد شرحوا مباحث الوجود شرحاً جمعوا فيه بين نظرية الوجود في فلسفة الإغريق وبين مفهوم الوجود في الإسلام وكان شرحهم ذا نزعة عقلية توفيقية وهم وعلى الأخص ابن سينا والفارابي، ومن تبعهما من الفلاسفة الإشراقيين، كالسهروردي، يؤمنون بالفيضية في الوجود، والإشراقية في المعرفة. وبناء على ذلك فالنبوة طريق للمعرفة لا تخرج في شرحها وكيفيات الوحي عن مذهبهم الإشراقي في المعرفة. ويردون النبوة إلى صلة النبي بالعقل الفعال الذي هو واهب الوجود وواهب الصور ويتم ذلك عن طريقين هما:
1_ طريق العقل الإنساني في أعلى مراتبه بعد أن يصبح عقلاً بالفعل مستفاداً، وهذا العقل يرتقى عند بعض الناس إلى أن يتقبل الأنوار الإلهية بغير معلم وبغير تعلم ولا حس ولا فكر، فيسمى العقل القدسي أو الروح القدسية. وعقول الأفلاك عندهم ملائكة ومن ثم يتصل العقل الإنساني في أعلى درجاته بالعقل الفعال عقل فلك القمر وطبيعتها عقلية. وهذا الإشراق بلا تعليم من العقل الفعال في العقل القدسي، هو كيفية من كيفيات الوحي بأن يسمع صوته ويراه والملاك مطلع على الغيب إذ هو مطلع على اللوح. ولا وسائط في إطلاعه على اللوح ولا في إطلاع العقل القدسي عقل النبي على ما يهبه العقل الفعال له من معارف. ويقيم ابن سينا النبوة على أساس عقلي ويرد كيفيتها في العقل الإنساني إلى تدرج وترق إلى أن يصبح العقل الإنساني في درجة ليس بحاجة إلى فكر ونظر، وإنما يقبس معارفه من العقل الفعال ويشعر بذلك في داخله بما لا يحتاج إلى تفكير، وهو المسمى عنده حدساً. والحدس عنده ليس خاصاً بواحد دون آخر ولكنه متفاوت فهو أعلى ما يكون وأكثر ما يتحقق في النبي، ولكنه قد يقل عند غيره حتى يصل إلى أناس لا حدس عندهم.
2_ الطريق الثاني: يكون بفيض العقل الفعال على القوة المتخيلة. وللمتخيلة عند فلاسفة المسلمين شأن كبير إذ هي أساس تفسير الرؤيا الصادقة والأحلام عموماً. وقد عقد الفارابي فصلاً في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" في سبب المنامات، وقد رد ما يراه النائم في نومه إلى هذه القوة المتخيلة المتوسطة بين القوة الحاسة وبين القوة الناطقة أي بين الحس والعقل. إذ إن لها صلة بالخصائص النفسية للإنسان من ميول وعواطف وحركات وإدارية ونزعات وهي تحتفظ بالآثار الحسية القادمة من العالم الخارجي عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة. ولها قدرة على التأليف والاختراع والإبداع بما فيها من قدرة على التركيب والفصل وتكوين صور جديدة قائمة في الوهم، وهي تحاكي القوى النفسية لدى الإنسان ويعقد فصلاً آخر على القول في الوحي ورؤية الملك يردهما فيه إلى القوة المتخيلة القوية عند الأنبياء التي تقبل من العقل الفعال فيكون لها نبوة بالأشياء الإلهية.
(ج) نقد وتقييم
بعد أن عرضنا التصور الإسلامي لكيفية الوحي عند فلاسفة المسلمين نجد أن هؤلاء الفلاسفة وإن سلموا بالنبوة طريقاً للمعرفة إلا أنهم أصروا على تفسيرها تفسيراً نفسياً وعقلياً بحسب مذهبهم في المعرفة عموماً، وهو المذهب العقلي الإشراقي الذي يوفق بين الدين والفلسفة. وقد وقف علماء أهل السنة موقف الاستنكار لهذا الاتجاه الذي خلط الدين بالفلسفة، واعتدى على أهم ما يميز الإسلام عن غيره من الفلسفات وهو طريق الوحي والنبوة، التي هي اصطفاء واختيار من الله سبحانه لعبد من عباده نبياً رسولاً. وهي موهبة ومنحة وليست كسباً قائماً على التدرج في الرياضة الفكرية أو الروحية. ونكتفي بأن نسجل المآخذ التالية على نظرية النبوة عند فلاسفة المسلمين فنقول:
1_ إن في هذا التفسير للنبوة خروجاً عن منهج القرآن الكريم وتصوره، كما أن فيه معارضة واضحة لنصوصه الصريحة القاطعة في الشرح والتفسير فكيفيات الوحي لا نستطيع أن نعرف شيئاً منها إلا من الشرع. وهذا المأخذ إنما يتوجه أصلاً إلى قضية آمن بها هؤلاء الفلاسفة، وخدعوا بها أنفسهم والمعجبين بهم تلك هي محاولتهم الجمع بين الدين والفلسفة بالتوفيق بينهما في شتى المجالات ونحن نرى أنه لا صح المقارنة ولا الجمع ولا يسوى بين منهج رب العالمين ومنهج البشر المخلوقين.
2_ إن النبوة في التصور القرآني فضل من الله سبحانه بمحض اختياره عز وجل وإرادته المطلقة المختارة يتفضل بها على عبد من عباده كي يبلغ الناس مُراده. ولكنها عند الفلاسفة أمر ضروري واجب يقتضيه التحسين والتقبيح العقليين، أو ليس ذلك غريباً على تصورهم لأنهم أساءوا قبل ذلك في فهم علاقة المخلوق بالخالق، إذ جعلوها ضرورية ضرورة وجود المعلول بوجود العلة، كما جعلوها ضرورية من قبل النبي نفسه الذي يتدرج بعقله الذي يصل إلى درجة المستفاد، ثم لابد له أن يتصل بالعقل الفعال، وكل ما هنالك أن مخيلة النبي أقوى من سائر مخيلات الناس، وهذا ما يتميز به النبي عندهم.
3_ النبوة في نظر القرآن والسنة ليست مكتسبة بتدرج ولا برياضة. ومن ثم فهي خاصة فيمن اصطفاه الله لها. بينما هي عند الفلاسفة مكتسبة. وإذا كانت تخضع للتدرج في الرياضة فهي عامة وليست منتهية أو مختتمة. وهذا خلاف للتصور الإسلامي الذي جعلها خاصة لا يدري بها النبي قبل نبوته كما قال تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) ومختتمة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) والكمال في الصفات الفطرية الإنسانية لا يكون باستعداده وإنما الله سبحانه يحفظ له هذا الصفاء، ولا يجعله يتلوث في الجاهلية أو أوحالها فهو إذن يعد على عين الله تعالى وكما قال سبحانه (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) وقال عز وجل (الله أعلم حيث يجعل رسالته). وقد عبر أهل السنة عن معنى الاصطفاء هذا فقال الشهرستاني قال أهل الحق: النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبي ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالاً بالروحانيات بل رحمة من الله تعالى ونعمة يمن بها على من يشاء من عباده. وإذا كانت النبوة كما يرى الفلاسفة ليست إلا ثمرة التدرج في الرياضة الفكرية والإشراق العقل الفعال عل القوة المتخيلة، فإن هذه النبوة تصبح "ضرباً من المعرفة يصل إليها الناس على السواء". وهذا ما لا يقره الإسلام.
4_ قيمة النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة وإن كان الفلاسفة يعترفون بها، إلا أنه بناء على مذهبهم العقلي والإشراقي في المعرفة يلزمهم أن تكون المعرفة النبوية أقل في قيمتها كطريق للمعرفة من المعرفة العقلية أو الفلسفية ومن ثم فإن منزلة النبي على مذهبهم أقل من منزلة الفيلسوف أو أقل ما فيها أنها مساوية. وهذا الرأي في تقييم المعرفة النبوية ومنزلتها، مجال خلاف بين مؤرخي الفلسفة. فيوافق عليه دى بور ويخالفه في هذا الرأي هنرى كوريان، ويدفع د. محمد يوسف موسى ود. مدكور هذا الاتهام عن الفارابي ويذهبون إلى العكس من ذلك فإن المعرفة النبوية عند الفارابي أعلى درجة من المعرفة العقلية، مستندين إلى أن الفارابي اشترط كمال القوة المتخيلة والناطقة للنبي. كما أن تقييمهم لها كان على أساس مختلف يقول د. مدكور: "غير أنه قد يعترض عليه بأن يضع النبي دون منزلة الفيلسوف فإن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل. وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة. ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية. وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أو بواسطة المخيلة وما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً. فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع".
وحقيقة الأمر أننا هنا نتهم الفارابي والمذهب الإشراقي ونلزمه بناء على مذهبه لا بناء على كلمة يقولها في محاولة الدفاع عن نفسه في وجه من يتهمه. إن الذي يريد الحق يتراجع عن مذهبه الخاطئ الذي أثمر ما نلزمه إياه ولا ينافق المسلمين في التصريح بقوة المتخيلة والقوة الناطقة. ثم إن التبرير الذي قيل بشأن أساس التقييم وهو أن مصدر المعرفة هو المهم في هذا وليس طريقها. لا نوافق عليه والتهمة قائمة. ذلك لأن الأفضلية هنا ملزمةِ للفلاسفة من وجهين:
الوجه الأول: من حيث وسيلة الاتصال فالفيلسوف يتصل بوسيلة العقل والنبي على رأيهم يتصل بوسيلة المخيلة التي تتبع الحواس الباطنة. والعقل أفضل من الحس كوسيلة.
الوجه الثاني: من حيث نوع المعرفة فإن الفيلسوف يقيس بعقله فيض العقل الفعال فتكون معرفته عقلية ثابتة بينما النبي على رأيهم يتصل على طريق المخيلة، فتكون معرفته حسية وخيالية ومخترعة وفائضة عن العقل الفعال. وبهذا فلم تعد النبوة في هذا الفهم الفلسفي ذات شأن كبير فضلاً عن أنها لم تعد أعلى طريق المعرفة وأقيم وسيلة من وسائلها وأقل ما ذهب إليه الفلاسفة أنهم جعلوا منزلة الفيلسوف مساوية لمنزلة النبي في المعرفة مع اعترافهم باختلاف بين تلقيهما للمعرفة فالفيلسوف يتلقاها بإشراق العقل الفعال على العقل الإنساني بينما النبي يتلقاها بما يفيضه هذا العقل الفعال الذي هو جبريل في نظرهم على مخيلته.
5_ إن هذا التفسير لكيفية النبوة والوحي فيه اعتداء على نصوص القرآن والسنة الصحيحة، ولا يخدم تأويل النبوة هذا التأويل العقلي الإسلام أبداً. ولا ينفع الدفاع عن قضايا العقيدة بمنطق الخصم لأن لكل دين أو فلسفة مناهج بحثه الخاص، ووسائل الدفاع الخاصة، فالقرآن والسنة يدافعان عن عقيدة النبوة دفاعاً ملزماً للعقل البشري السليم، ولا يجعلان من هذا العقل إلها مقدساً يحكمان إليه، كما فعل فلاسفة المسلمين، ومن ثم فإننا لا نرى وجهاً لهذا التأويل العقلي والتشريح الكيفي، لقضية قال صاحبها فيها قوله، وألا يكون ذلك افتئاتاً عليه كما قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون). وحقيقة الأمر أن الدوافع الفلسفية تخرج الإنسان أحياناً عن جادة الصواب لأنها تضطره للدفاع عن القضايا وتبريرها تبريراً يزيد من تعقيد المسألة.
ولنا على ذلك بعض الملاحظات:
أ إن قضية التوفيق في حد ذاتها قضية لا يحتملها الدين وليست من منهجه لأنه جاء ومهمته الأساسية تغيير كل التصورات والعقائد البشرية التي شكلها الناس بمنهج العقل والتقليد والهوى بعيداً عن دائرة الدين. فلا يمكن أن يجعل الدين الحق في خليط من عقائده الربانية والفلسفة البشرية، لأن حقائق الدين هي الحقائق البديلة فهي الحق وغيرها الباطل والحق أحق أن يتبع. ولا يفهم من هذا أن حقائق الدين تتعارض معها العقول ولكن العقل السليم إنما هو مخلوق لله، وقد جعل الله في منهجه ما يستطيع هذا العقل أن يفهمه ويتجاوب معه ويسلم بوجوده من خلال قوانين العقل في عالم الشهادة. وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وإذا كان الإسلام ناسخاً للديانات السابقة وهي في أصلها من عند الله أفلا ينسخ الفلسفات البشرية التي شكلتها مدارس بعيدة عن هدى الله ومنهجه.
إن ثبوت النص في القضية التي هي قيد البحث ثبوتاً يقينياً هو سلاح رئيسي في الدفاع عن القضية. وبعد ذلك نرى هل شرح النص نفسه هذه القضية وفسرها؟ أم أنه ترك شرحها وتفصيلها للعقول وأية عقول؟ فإذا كانت القضية إحدى أركان الإيمان وهي الإيمان بالرسل والشهادة بأن محمداً رسول الله فهل يترك النص تفسير كيفية هذه القضية على أهميتها وأهمية توحيد التصور والفهم لها للعقول؟ والعقول مع التسليم بقدرتها على الفهم تتخالف فيما بينها فكيف إذا كانت القضية في شرحها وكيفياتها لا تدخل في نطاق قوانين العقل أصلاً وإذا تقدمت العقول لتلك المهمة فإنها في الحقيقة تستبعد النصوص وتحل محلها خرافات وتأويلات، لا سند لها من دين أو عقل سليم. لأن العقل السليم يؤمن بأن تفسير هذه القضية لا يدخل في مجال عالم الشهادة، بل هو من قبيل عالم الغيب. الذي لابد أن نعتمد فيه على النص كيفية وشرحاً وتفسيراً والنص نفسه قد أعطى لنا شرحاً وتفسيراً كافياً.
(ب) أنه ليس في قضايا الدين والاعتقاد أمر وسط، وهل يكون الأمر الوسط بتغيير ما أنزل الله وهو أعلم بخلقه وطبيعتهم وبين ما هو بشرى؟ إن الوسطية كمفهوم سليم بعيد عن الإفراط والتفريط، إنما هي في ذات الحقائق الربانية التي أنزلها على النبي وليست جمعاً بين ما جاء به النص وخيالات وترهات الفلاسفة، فإن حقائق الدين ربانية المصدر والشرح والتفسير. والفلسفة اليونانية أصلاً وعلى الأقل شرحاً وتفسيراً وتحليلاً وثنية حتى وإن كان العقل هو الذي يتبنى هذه الوثنية ليعطيها معقولية ما.
(ج) ثم أي جلاء لقضية النبوة ظهر في ما فعله الفارابي وسائر فلاسفة المسلمين؟ إنهم عقدوا القضية بعد أن كانت بسيطة. والمسلم لا ينشغل بتشريح الكيفية وإنما تكفيه المعلومات عنها والتي هي بقدر ما تطيقه فطرته. ولا أحد أعلم بما تطيقه هذه الفطرة من خالقها سبحانه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وأي أثر للنبي زاده شرح فلاسفة المسلمين للنبوة سواء في مجال السياسة والاجتماع أو غيرهما حتى يبرر لهم تأويلهم بالقول "فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي في السياسة والاجتماع لكفى". وهل غابت هذه المهمة في تفسير القرآن والسنة النبوية للنبوة وأثرها في هذه الجوانب أم أن المقصود هو أن الفلاسفة جعلوا مهمة النبوة إنسانية من منطلق إنساني وبتفسير إنساني، وهو خروج عن مفهوم النبوة وعدم التسليم بالمفهوم الرباني للنبوة، القائم على أنها ليست إنسانية لا في المنطلق والمصدر ولا في الشرح الكيفية.
الخميس 25 سبتمبر 2014 - 13:46 من طرف ayoub bella
» للتثبيت : تحسين الخط
الثلاثاء 17 سبتمبر 2013 - 13:22 من طرف nadia
» مواضيع فقرات الانجليزية
الثلاثاء 17 سبتمبر 2013 - 12:50 من طرف nadia
» خصائص الأدباء.docx
الثلاثاء 17 سبتمبر 2013 - 12:30 من طرف nadia
» أسئلة وأجوبة ذات صلة بالتقويم النقدي خاصة باللغات واداب وفلسفة نقلتها لكم من أجل مراجعة بعض دروس التقويم النقدي
الإثنين 16 سبتمبر 2013 - 13:41 من طرف nadia
» معالم تاريخية للوحدة الاولى لجميع الشعب
الإثنين 16 سبتمبر 2013 - 13:28 من طرف nadia
» ادخلوا.....
الأحد 15 سبتمبر 2013 - 21:39 من طرف nadia
» فقرتين في الاسبانية حول la lectura y internet
الأحد 15 سبتمبر 2013 - 13:33 من طرف nadia
» ملتقى التميز في لباسه الجديد " للتصويت "
الأحد 15 سبتمبر 2013 - 12:48 من طرف nadia
» الى طلبة اللغات
الأحد 15 سبتمبر 2013 - 12:39 من طرف nadia